«القاتل» فلمٌ متواضع سنقدِّره مع مرور الأعوام

عقولنا تنشط حين نختلق التساؤلات العبثية والمقاربات في أثناء مشاهدة كل فلم شيّق، أو أداء مميز لقاتل يتخير ضحيته التي لا يمتلك تجاهها أي دوافع شخصية، كالقرش تمامًا.

لقطة من فلم «القاتل» / Netflix
لقطة من فلم «القاتل» / Netflix

«القاتل» فلمٌ متواضع سنقدِّره مع مرور الأعوام 

علي حمدون

في روايتنا للقصة الشيقة المبتذلة في آنٍ واحد ندرك أن الأمر لا يتوقف على سردنا لها بقدر ما يتوقف على الطريقة التي نسردها بها. ولا يتوقف الأمر على اللغة التي نستخدمها بقدر ما يتوقف على اللهجة التي ننقلها بها. وهكذا يُخلق من الهيِّن نجوى ومن المألوف استثناء!

هذا ما ابتدعه المخرج ديفيد فينشر في فلم الجريمة والانتقام «The Killer» المقتبس من قصة فرنسية مصورة. كان يتحدث ببساطة عن قاتل مأجور يرتدي شخصية فلسفية، لا يكف عن تكرار قناعاته الأخلاقية بغرض ترسيخها، وينهار عالمه المحسوب بدقة حين يفشل لأول مرة في عملية الاغتيال التي خطط لها.

ولعل أول انطباع تشويقي قرأته كان على لسان المخرج نفسه قبل موعد صدور فلمه بعدة أشهر، معلقًا على أداء بطله في العمل بقوله: مايكل فاسبندر لم يرمش لمرة واحدة في أثناء تصوير الفلم!

وهذا صحيح نسبيًا، لا سيما في المشاهد الأولية، لكن لم تكن تلك السمة الوحيدة التي سكنت عين البطل صاحب الهوية المبهمة، بل صفة عدم التواؤم مع كل شاردة وواردة في حديثه الداخلي، فالنظرة العدمية الجامدة لم تكن تمتلك أي قلق وجودي. ولم تستحضر ذاكرتي من هذا التصلب سوى وصف القبطان كوينت من فلم «الفك المفترس» حين قال:

ما هو مميز في القرش أن لديه عينين لا حياة فيهما، عينين سوداوين مثل عيون الدمى، عندما يتجه نحوك لا يبدو أنه حي حتى يبدأ نَهْشَك، حينها تلك العينان السوداوان تصبحان بيضاوين، ثم تسمع الصراخ العالي الرهيب.

وهذا هو الوصف الأنسب للكائن المفترس البشري الذي يرى التفكير في معنى الكينونة أمرًا زائدًا عن الحاجة. ولعل الجمود ورهبة الكمال من التقمص -لا سيما في أثناء المواجهات الحاسمة مع الضحايا- هي ما جعل صديقي الذي كان يشاهد الفلم معي يتساءل: هل يغمض هذا القاتل عينه حين يعطس؟ هل يرى أثر أنفاسه إن اقترب من المرآة؟ كما لو كان مايكل فاسبندر كائنًا أسطوريًا!

عقولنا تنشط حين نختلق التساؤلات العبثية والمقاربات في أثناء مشاهدة كل فلم شيّق، أو أداء مميز لقاتل يتخير ضحيته التي لا يمتلك تجاهها أي دوافع شخصية، كالقرش تمامًا، لكن بهيئة سائح ألماني يتجول في فرنسا مرتديًا قبعة «دلو» و«بذلة» لونها «بيج فاتح»، كما حصل في أحد المشاهد الافتتاحية. وهنا نتذكَّر ختامية فلم «صمت الحملان» عندما كان «دكتور ليكتر هانيبال» آكل لحوم البشر الذي أدى دوره الممثل أنثوني هوبكنز يتربص لضحيته وسط الجمع في إحدى الدول الإفريقية مرتديًا «بذلة» بالألوان نفسها لكن بتدرجات مختلفة.

ينقسم فلم «القاتل» إلى عدة فصول على رغم أن الأحداث لم تكن بحاجة لهذا التقسيم السردي، لكنها كانت برأيي بغرض توضيح عملية المكاشفة لغموض القاتل المأجور الذي كانت القصة تتمحور حوله هو فقط، بصورة أقرب إلى وصف هرمان هسه حين قال: ‏«إن الإنسان بَصَلَة مكونة من مئة غلاف!» 

والقشرة الخارجية الخالية من العيوب في بداية الفلم كانت تستر الكثير من النقائض بداخلها، لا سيما في الجزء الأول عندما كان القاتل في باريس يطل من نافذته على هدفه المراد تصفيته.

بالعودة إلى «هانيبال» آكل لحوم البشر، يتعزز لدينا الشبه حين نلحظ الرسالة التي زرعها لنا ديفيد فينشر -والتي كانت تشي بالتناقض الشديد- في أغنية «Well I Wonder» من ألبوم «Meat is Murder» لفرقة «ذا سميثز»، الأغنية التي كان يصغي إليها القاتل المأجور في أثناء مراقبته محيطه من الشباك وتأديته تمارينه الرياضية بكامل جوارحه. 

الأغنية التي اختيرت اسمًا للألبوم أحدثت تغييرًا كبيرًا وقت صدورها عام 1985 في مجتمع آكلي اللحوم، بل إن بعضهم تحوَّل نباتيًا بسبب رسالتها المؤثرة المُدينة لفكرة قتل الحيوانات للرفاهية. وبعد الاستماع إليها، يخرج بطلنا مباشرة من الشقة التي كان يتخذها مركزًا لمراقبة ضحيته المراد قنصها، ويبتاع شطيرة لحم بالبيض من ماكدونالدز «عشرة قرامات بروتين مقابل يورو» حسب تعبيره، فيلتهم لحمها وبيضها ويتخلص من خبزها النباتي.

يُختَم الفصل الأول من الفلم بتساؤل يطرحه القاتل لنفسه بعد فشله في إتمام مهمته المنسوبة إليه، بعدما نفذ بجلده من المحاصرة البوليسية: ماذا سيفعل مثَلنا الأعلى جون ويلكس بوث لو كان مكاني؟

يقول ذلك قاصدًا الممثل الأمريكي الذي اغتال أبراهام لينكولن، ولعلنا نتساءل: لماذا اختار قاتل لينكولن تحديدًا؟ بوث قاتل سياسي أكثر من كونه قاتلًا متسلسلًا مأجورًا. أعتقد أنَّ الاختيار جاء بسبب الخطة التي وضعها جون ويلكس سلفًا بدقة، إذ استغل الحدث الأهم من المسرحية التي حضرها الرئيس حيث يتفاعل الحضور بالتصفيق والصفير والضحك كوسيلة للتعمية وتنفيذ عمليته وسط تغافل من الجميع، وهذا ما كان يسميه قاتلنا: حسن الحظ المهني الذي يصنعه المتفرجون. 

كما أنه ذكر قبل ذلك قاري ريدجواي الملقب بـ«قاتل النهر الأخضر»، والأخير قتل ما لا يقل عن 49 امرأة على مدى عقدين من الزمن!

يحاول القاتل تتبع نماذج يعدها أخلاقية وفق فلسفته المتسقة مع مهنيته، حيث يعتقد أرسطو أن الأمثلة التي يوفرها أشخاص آخرون تؤدي دورًا مهمًا في التربية الأخلاقية. وفي قصة الفلم نجد أن المسؤول عن زرع هذه السلوكيات هو «المحامي هودجز»، الذي أقنعه بفكرة التخلي عن دراسة القانون والعمل لحسابه.

أتفهَّم تعجب الكثير من الشخصية التي ابتدعها لنا ديفيد فينشر، كيف لنا مثلًا ألّا نحتار من فكرة انتقامه لحبيبته التي نجت من عملية تصفية، بينما لا يأتي بذكرها حتى في مناجاته الداخلية في أثناء رحلة انتقامه الممتدة عدة فصول وساعة ونصفًا؟ كيف لمشاعر الحب ألّا تثير اضطرابه كمشتِّت؟

هنا يحضرني هاري فرانكفورت حين قال (بتصرُّف): إن الأشياء التي تميزنا من الحيوانات هي قدرتنا على تشكيل رغبات ثانوية حول رغباتنا الأوليَّة، بمعنى أن رغباتنا الثانوية قد تتخذ موقفًا مشابهًا لرغباتنا الأولية وبالتالي تتغير دوافعنا. لذلك أغلب الظن أن ما حصل مع القاتل كان بسبب دوافع بعيدة تمامًا من الانتقاميات المعهودة، بل لربما كانت وراءه نرجسية رفض الفشل، أو أن حبيبته هي صلته الوحيدة بالإنسانية.

لعل فلم «The Killer» كان متواضعًا أمام أفلام ديفيد فينشر السابقة، ولعله استخدم ورقة امتيازه الدائمة في عشقه للمناجاة الداخلية كما حدث في فلم «Fight Club» و«Gone Girl»، لكنه نجح في ابتداع أفضل شخصياته، وهذا التناقض المتأرجح بين تواضع الفلم والإشادة بالشخصية يتناسب كذلك مع الفكرة عمومًا.

إن كان الفيلسوف ألبير كامو في روايته «الغريب» قد ابتدع قاتله العدمي «مورسو» الذي علّق احتمالية سبب جريمته الباردة بحرارة الجو، فقد ابتدع ديفيد فينشر بفلسفية سينمائية ما ابتدعه الأول. ولعلي بعد انتهاء الفلم تخيلت نهاية القاتل حين تقتص العدالة منه، فلم أجد أفضل من مشهد خاتمة القس الذي خرج من زنزانة «مورسو» العدمي مستسلمًا بعبارته الشهيرة: «إنّ الحديث عن الحياة الأخرى لرجل سنقتله لا يمكن أن يجدي نفعًا»، بعدما حاول وعظه وحثه على ضرورة طلب المغفرة من خالقه قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام!

ولهذا في خيالاتنا لا تنتهي الأفلام، ولا تحضر كلمة «النهاية» بل إن دروب القتلة تبقى مؤرقة لمناماتنا حتى نرصد لها نهاية مألوفة وعادلة. 

ولعل تقييمي القادم سيخضع هو كذلك لعملية التناقض التي قصدها ديفيد فينشر في عمله. فالانبهار كان سيزداد لو كان الفلم من صناعة مخرج آخر أقل إبداعًا منه؛ لكون المقارنة تخضع دائمًا لأعمال فينشر السابقة التي يتواضع أمامها فلمه هذا الذي نجح في لفت انتباهي كمشاهد سخَّر حواسه كافّة للنص والصورة وجمال الإطارات والمؤثرات السمعية، لكن ليس بما يكفي. ومن جهة أخرى قد يزداد تقديري لهذا العمل مع الوقت بسبب الفكرة المكررة التي حوَّلها بقدرته الفائقة إلى عمل يترسخ في الذهن.

دعنا لا ننسى أن المخرج الجيد هو من يستطيع إخراج أفضل ما في أبطاله من مواهب، وهذا ما فعله مع مايكل فاسبندر الغائب منذ أربع سنوات لانشغاله بهوايته الأحب إليه: عالم سباق السيارات. فإن كان فلم «زودياك» يركز في محيط القاتل بكل تناقضاته واختلافاته فقد استطاع فينشر أن ينقل ذلك المحيط كله إلى داخل القاتل!

وهذا تقييمي للفلم الذي قد يرتفع مع مرور الأعوام: 7.5/10 🍿😲


اقتباس النشرة

فلم «Seven»
فلم «Seven»

أخبار سينمائية

  •  إيلون مسك «من كثر ما يطلع لك في إكس» قررت شركة «A24» ضرورة إنتاج فلم سيرة ذاتية عنه وتحديد المخرج دارين أرنوفسكي لهذا العمل، ويُقال أكثر لقطة متشوقين لها هي هذه اللحظة!

  • عالم «John Wick» يتوسَّع إلى نطاق الأنمي الياباني، عقبال «HBO» تحوِّل مسلسل الأنمي «Monster» إلى مسلسل واقعي.

  • مارفل وعالمها تسجِّل أدنى إيرادات في تاريخها في شباك التذاكر مع فلم «The Marvels»، وهذي ردة فعل المخرج مارتن سكورسيزي يوم عرف بالخبر

  • «كل» الممثلين البارزين ترشحوا لأفضل ممثل سينمائي في جوائز «JoyAwards».


توصيات سينمائية

بينما انشغل فريق تحرير النشرة في عطلة نهاية الأسبوع بمشاهدة فلم «The Killer»، أدرك أحد أعضاء الفريق بعد مشاهدته أنَّ أغلب أفلام الجرائم لا تركز في المأساة الفعلية للجريمة، بل تركز في جانب الغموض والإثارة. لذلك قررنا كتابة توصية الأسبوع من السينما الكورية التي قدَّمت فلمًا يجعلك تحس بمعنى وقوع جريمة قتل.

حقيقةً لم أكن أعلم عن هذا الفلم إلا بعد مشاهدتي «Parasite» الذي حصد جوائز قوية في أوسكار 2019. بحثت عن المخرج «بونق جون هو» وعلمت أنه في سنة 2003 قدَّم تحفة فنية في فئة تحقيق الجرائم. استلهم المخرج القصة من سلسلة الجرائم المروعة التي حصلت في كوريا الجنوبية ما بين عام 1986 إلى 1991 وذهبت ضحيتها 14 امرأة. وقت العمل على الفلم لم يظهر القاتل الحقيقي، لكن ظهر في عام 2020 واعترف بالجرائم التي ارتكبها. 

يدور الفلم حول محققيْن اثنين: «بارك» من تمثيل سونق كانق، و«سيو» من تمثيل كيم سانق كيونق، ويحاول المحققان حل هذه القضية وإيقاف سلسلة الجرائم التي أثارت خوف سكان المدينة. استطاع فريق الكتّاب والمخرج تجسيد مدى الإرهاق الذي يقع على المحققين في حل الألغاز، وكيف كلما طالت الرحلة ازدادت المعاناة، عليهم وعلينا.

هذا فلم من الأفلام القليلة التي ما إن تنتهي من مشاهدتها تتركك في حالة دهشة وانبهار بعد ما اندمجت في كل مشهد وشعرت بكل إحساس فيه. 

فإذا سبق أن شاهدت الفلم وتود معرفة المعاني الخفية المُدرَجة في الألوان أنصحك بمشاهدة هذا الفيديو. وإذا لم تشاهد الفلم، اسهر عليه هذا الأسبوع👍.


ميم النشرة


يعرض الآن

في السينما فلم الإثارة والمغامرات «The Hunger Games: The Ballad of Songbirds & Snakes» بطولة راشيل زيقلر وتوم بليث. تدور أحداث الفلم حول قصة كوريولانوس قبل تحوُّله إلى رئيس مستبد في «بانم» وكيف بدأت مشاعر الحب لديه تجاه المتسابقة في «المقاطعة 12» خلال الفعالية العاشرة من «هنقر قيمز».

VOX / IMDB

في السينما فلم الدراما «May December» بطولة ناتالي بورتمان وجوليان مور. بعد عشرين عامًا من انكشاف فضيحة علاقة ممثلة بزوجها الحالي على صحف التابلويد، تأتي ممثلة أخرى وتستكشف هذا الماضي لكي تؤدي دورها في فلم.

VOX / IMDB

في السينما فلم الإثارة «بحر ألماس» بطولة شعيفان محمد وشيماء الفضل. يُكلَّف تشكيل إجرامي من جنسيات مختلفة بمهمة التوجه إلى شرم الشيخ وإخراج صندوق ألماس من قاع البحر غرق أثناء عملية تهريبه.

VOX

في منصة «أبل تي في» مسلسل المغامرات «Monarch: Legacy of Monsters» بطولة ماري ياماماتو وكريستوفر هيردال. في عالم أصبح فيه هجوم الوحش قودزيلا على المدن أمرًا واقعًا، تحاول الفتاة الكشف عن مصير أبيها بعد هجوم الوحش على مدينتها وعلاقة منظمة سريَّة بوجود قودزيلا.

APPLE TV / IMDB

النشرة السينمائيةالنشرة السينمائيةمقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.