فلم «هجَّان» ينجح في اختبار القصة

نجح المخرج المصري أبو بكر شوقي في التوغل إلى المظاهر القبلية، مجسدًا في تجربته الجادة ثيمة الفلم الأساسية وهي «خوض مقامرة مجهولة».

مشهد من فلم «هجان» للمخرج أبو بكر شوقي / إثراء
مشهد من فلم «هجان» للمخرج أبو بكر شوقي / إثراء

فلم «هجَّان» ينجح في اختبار القصة

علي حمدون

اعتمدَت مشاهد الصحراء في الأفلام الرائجة على القصص المتوارثة عن الشرق، وهذه القصص منبثقة من خيالين: الأول اقترن بالحكايا الاستشراقية من الأسفار التي تشوبها أواعث الطرق التي تصادف الفقراء، وفنتازيا مرويَّات ألف ليلة وليلة التي أسهمت في تكوين سحرها في عقل الإنسان الغربي؛ لِتُصدِّر لنا لاحقًا صورة نمطية محددة عنّا تكوَّنت في أذهاننا المتمدنة.

أما الخيال الثاني فاقترن بوجوم الصحراء وظروفها وأرضها التي تشرَّبت القصص الواقعيَّة وأعادت سردها علينا بالأشعار وفق إطار مبهم أشعرنا كشرقيين بالوجل الذي يختبر خارجنا وداخلنا: رماح قاست المخاوف التي ناوشت شجاعة أجدادنا الفتية، قصص ملأت فوهات بارودات من غدروا بالأبطال أو بمن يحبون، وخناجر لم تتوقف عن غرس رؤوسها في خواصر الفرسان كتهديد يطاردهم للأبد.

وقد اندمجت كل تلك الأسلحة في فلم «هجَّان» في صورة تضاريس جغرافية طاحنة تحضر جماليتها في الرخاء الذي يناقضه التقشف المربك المظهِر لقسوتها، ولكنه ينفي عنها وصمة الشرور. تضاريس تلاحق المرء لتنهشه وهو يعبر المفازة ويطوي لوعة المسافات، ولا نتندَّر بتسمية الصحراء بالمفازة؛ فكل من عبرها وحده كان فائزًا!

جُسِّدَ هذا العبور في «هجّان» من خلال رحلة البطل الصغير «مطر» في نهاية الفِلم، حين قطع الكثبان الرملية والأخاديد على ظهر ناقته «حفيرة» التي صنعت لها مجدًا بعيدًا من الملاحم الدموية، هاربًا من ملاحقيه بصورة أقرب إلى أجواء قصيدة المتنبي حين فرَّ من مصر متجهًا للعراق مادحًا ناقته: 

أَلا كل ماشية الخيزَلَى

فِدا كل ماشية الهيذَبَى

وكل نجاة بُجاويةٍ

خَنوفٍ وما بيَ حُسْن المِشَى

ولكنهن حبالُ الحياةِ

وكيد العداة ومَيطُ الأذى. 

كلا المسافرين أنجتهما نوقهما من مهالك المطاردين، وأماطت عنهما الأذى. ولعلي ابتدأت المقالة ساردًا مشهدًا من النهاية بناء على الجملة التي خرجتُ أرددها من قاعة السينما على أمل حفظها بعدما انطفأ هاتفي، والتي قيلت تمجيدًا لأسطورة «هجّان» الذي حَطَّمَ الأرقام القياسية في سباقه الذي خلدته الأشعار وأفواه عشاق سباق الهجن. تقول العبارة: «واقف على خط النهايات وغنَّى، ‏و«الجيش» باقي عند خط البدايات». (المقصود بالجيش هُنا في الدارِجة الحشد من الإبل).

الفلم يحكي ببساطة -خالية من الملاحم الدموية التي عهدناها- قصة صبي يتيم يدعى «مطر»، يشرف على تربية ناقته «حفيرة» التي تربطه بها علاقة وطيدة. يشهد هذا الشاب الصغير على حادث مأساوي مفتعل يسبب وفاة أخيه الأكبر في أحد سباقات الهجن المحلية التي تتطلب نوقًا أصيلة؛ فيطلب المشاركة بناقته التي لم تأتِ من استيلاد سلالة مميزة، مدفوعًا بإيمانه بها وتميزها من غيرها. وكأن لسان حاله يردد ما قاله باولو كويلو في رواية «الخيميائي» التي تناولت أدب الصحراء: «السفينة آمنةٌ على الشاطئ، لكنّها لم تُصنع من أجل بقائها آمنة».

يجازف «مطر» بنفسه وبها، عاقدًا اتفاقًا قد تتحول به مطيته «حفيرة» إذا خسِر إلى لحم يؤكل؛ فيتورط في مغامرة حققت له انتصارات وتتكشف له من خلالها أسرار عدوّه اللدود «جاسر» الذي أدّى دورَه الممثل القدير عبدالمحسن النمر والذي كان، بالوصف الشمالي، «يحَلْوِص» لتحقيق غايته بأي وسيلة. 

نجح المخرج المصري أبو بكر شوقي في التوغل إلى المظاهر القبلية، مجسدًا في تجربته الجادة ثيمة الفلم الأساسية وهي «خوض مقامرة مجهولة»، مقدمًا عملًا بعيدًا تمام البعد عن هويته الشخصية وتجاربه السابقة، مُرضيًا طموحات الجمهور السعودي المعتز بثقافته وموروثه وبيئته. 

أَوجَد أبو بكر شوقي لغة تفاوضية وفّقت بين رغبتين. الرغبة الأولى أن يكون الفلم جماليًّا بصورته الشعرية التي تشعرك برائحة الرمث والقهوة التي تتضوع في المكان. وأظهر باحترافية متحف تبوك المفتوح الممتلئ بالصخور المميزة التي شكلتها عوامل التعرية والهندسة الطبيعية الساحرة. كما اهتمَّ بالتفاصيل الامتدادية كالهندمة التي ظهرت في مشاهد جمهرة الناس الذين يرتدون أزياء جسّدت التمايز الطبقي، والملابس المتخاصمة الألوان ما بين صيفية وشتوية. هذه المادة التحريضية -حتى إن كانت غير دقيقة- فهي قد تدفع المُشاهد إلى زيارة المكان، كما حرَّضت سينما هوليوود على زيارة ريف توسكانا الإيطالي والفاتيكان وباريس. 

أما الرغبة الثانية فتتمثل في بناء القصة الجادة -التي كتبها السعودي مفرّج المجفل والمصري عمر شامة- القادرة على تحويل المألوف إلى نجوى في إيصالها إلى المشاهد رياضة معروفة عالميًّا «سباق الهجن» في حبكة حماسية تشده من بداية الفلم إلى نهايته، وتعتمد اللهجة المنقولة أكثر من اللغة. كما أن الموسيقا التصويرية لم تكن أقل سحرًا من أي عنصر آخر أسهم في نجاح الفلم، فقد أضاف التونسي أمين بوحافة بُعدًا جماليًا عزَّز تجربة المشاهد بترابط ووئام تام. 

رُسمت شخصية «مطر» -الذي جسّده الشاب اليافع عمر العطوي- بنضج وتناغم مع البيئة التي أخذ منها عنادها وحكمتها وعطاءها المتمنِّع وجفافها العاطفي. واستحضرتُ من الأداء الذي قدَّمه، لا سيما بعد كل حدث مثير للشفقة يواجهه بثبات، حديث الممثل مارتن لانداو حين قال (بتصرّف): «وحده الممثل السيئ الذي يُظهِر عاطفته، فالشخصية التي تخفي مشاعرها هي التي تُعرّفنا بها، لأنَّ لا أحد يحاول البكاء في الحياة الواقعية». فقد كان البكاء يراود «مطر» في صورة قهر الرجال الذي كُبِت كثيرًا، لا في صورة طفل يتيم محروم يشعر بغيرة من أبناء جيله بغرض استدرار التعاطف. 

الملاحظة الوحيدة التي قد يتلمسها المشاهد المحلي هي فكرة التوسع الجغرافي والتصاهر العائلي الذي كان يحمل نوعًا ما طابعًا أمميًا في صورة تباين اللهجات. وقد استعصى على بعض ألسنة الكادر التمثيلي أن يُلوى على طريقة أهل المنطقة التي لا أظنها حاضنة لهذا التنوّع الهويّاتي، على رغم أن الوجوه المستعان بها تميزت بالملامح المتماهية مع محيطها. 

ولعل عاطفتي الميالة إلى الأدب راقتها المقاربة التي افترضَتها مخيلتي حين تجسدت سينمائيًا وإن كانت فيها وحشية سلوكية؛ كمشهد الناقة التي أضمرت الإساءة في قلبها. وهذا شبيهٌ برواية تناولت حادثة حقيقية لناقة برَكَت فوق رجل لتهرسه تحتها؛ واشتُقّ لقب «المهروس» لفرع قبيلته بناء على الحادثة. 

كذلك، جعلتني الصفات المكانية أستكمل المشهديَّة الصحراويَّة في مخيلتي دون أن تُصوَّر في الفلم، كالخيام المتناثرة والجرابيع المتقافزة هنا وهناك وبروز الاستواء الذي يخفي تحته الكمأة في فترة الوسم والحداء الذي لا يتوقف عن مسامعك حالما تشاهد الإبل دون أن يكون هناك كثير من الحداء!

ولعل في هذه النظرة كثيرًا من الشاعرية تجاه الفلم، على رغم أن القصة كانت قاسية كالطبيعة الصحراوية التي ذكرناها في المقدمة أعلاه. كما أن الفلم تزامن بشكل متكامل مع عام الإبل، تكريمًا لمكانة هذه الدابة التي ذُكِرت في القرآن وما تحمله من قيمة رمزية ارتبطت بشبه الجزيرة العربية. 

أما تقييمي الختامي لفلم «هجَّان» فقد جاء بناء على الإيجابيات والسلبيات المذكورة أعلاه كافة، واستنادًا إلى مفهوم مُنتَجٍ صنَع قالبه الخاص، ويحمل من الثقافة المحلية الغنية والمتنوعة ما يستهدف الجمهور من الداخل وما يثير فضول من يود رؤية انعكاس لا يجد فيه إيحاءً هوليووديًا مبتذلًا أو سلوكًا اجتماعيًا مستنكَرًا: 

8/10. 🍿🥹


اقتباس النشرة

فلم «Sword of the Stranger»
فلم «Sword of the Stranger»

أخبار سينمائية

  • قائمة ترشيحات الأوسكار ظهرت: أعلى فلم ترشيحًا «أوبنهايمر» مع 13 ترشيح، بعده فلم «Poor Things» مع 11 ترشيح، «Killers of the Flower Moon» مع 10 ترشيحات، و«باربي» مع 8 ترشيحات، ونال الفلم التونسي «بنات ألفة» ترشيحًا في فئة أفضل فلم وثائقي. «فلم «Poor Things» الوحيد اللي ما كتبنا عنه مراجعة لأنه ممنوع في المنطقة.😞»

  • رفعت عائلة قريزلدا دعوى قضائية على نتفلكس وصوفيا فيرقارا، لأنَّ العائلة لم توافق على استخدام صور أفرادها الشخصية وتريد إيقاف المسلسل قبل نزوله على المنصة. «زي العادة، مسلسل واقعي يجي معه دعوى قضائية مجانية.🤑» 

  • ليلة السبت، كانت جوائز «Joy Awards» وشاهدنا تكريمات كثيرة، أهمها تكريم النجمين الكوميديين الشهيرين مارتين لورنس وعادل إمام، وجائزة أفضل فلم نالها «سطّار». 

  • الممثل مايكل فاسبندر والممثلة كيت بلانشيت يشتغلون على فلم جواسيس جديد، «هالمرة ما راح نشوف فاسبندر ياكل تشيز برقر بروحه 🤣.»  


شرح مشهد مع حمد القحطاني

في فلم «The Quick And The Dead» تتفاجأ البطلة بوقوفها في الحانة إلى جانب الرجل الذي تريد الانتقام منه، وفي لحظة مشحونة بالتوتر المتصاعد، يقبض أحد المقاتلين على كتفها من الخلف، لكن هذا المشهد رغم أهميته يعاني مشكلة. 

شاهد المشهد الأصلي.

هل لاحظت بطء استجابتها؟ ردة فعل البطلة جاءت بطيئة ومتأخرة جدًا ولا تتناسب مع طابع الفلم السريع ولا مع طبيعة الشخصية نفسها.

شاهدنا هذا البطء بسبب توقيت القطع. ويمكن معالجة المشكلة بحذف 16 فريم زائد لكي تظهر لنا استجابتها أسرع وتعبيرها عن فزعها أشد في تلك اللحظة المشحونة.

شاهد المشهد بعد التعديل.


توصيات سينمائية

«كيفك مع الويسترن؟» حين سألني رئيس التحرير هذا السؤال، جاءت إجابتي «شوي معقدة». فأنا أحب تعدد الثقافات في الأفلام والمسلسلات، وتحديدًا تجذبني الثقافة اليابانية، ولكن الثقافة الوحيدة التي لم أتعمَّق فيها هي أفلام رعاة البقر، لكن تخيَّل أني وجدت فلم ياباني وأيضًا «ويسترن»🤩 وهذا هو فلم توصيتنا للأسبوع! 🤠🏯

تصنيف الفلم: 18+ (دموي وألفاظ نابية) 

مر عليك اسم الفلم، صح؟ صح عليك! هذا الفلم إعادة تصوُّر من منظور ياباني لفلم كلنت إيستوود «الويسترن» الأوسكاري (Unforgiven) الصادر عام 1992، اقتباس باللغة اليابانية والثقافة اليابانية والتاريخ الياباني تنسى معه أنَّ الفلم أصله أمريكي. 

القصة باختصار، بطلنا ساموراي سابق، يضطر إلى الخروج من عزلته في مزرعته الصغيرة، ويقابل صديقه القديم ويقنعه بالانضمام إليه في مهمة انتقام. القصة قد تبدو بسيطة، لكن المقدمة تقول لك عكس ذلك تمامًا. 

يتميز الفلم بالجرأة في تجسيد مشاهد العنف والدم، والأهم تميُّزه في استعراض ثقل الحزن على صاحبه أمام عينك، مع موسيقا تجسِّد لك المعاناة البشرية. «لازم تعرف بأن الفلم يطبخ على نار هادية، فخليك صبور معه.»

إذا شاهدت النسختين، أنصحك تشاهد هذا الفيديو الذي يقارن بينهما. 

وقبل ختام التوصية، أشاركك السؤال الذي خطر لي: هل ممكن نقتبس فلم (Unforgiven) من منظور عربي؟ أترك لخيالك أن ينطلق🤯 لكن حتى لا أتهرب من الإجابة، إذا امتلكنا الجرأة على اقتباس هذا العمل سأكون أشد المتحمسين له، لكن إذا سنذهب للخيارات الآمنة والمملة، فصراحةً لا أتمنى مشاهدة النسخة العربية. 🫣


ميم النشرة

ديكابريو وهو يدور اسمه بين الترشيحات.


يُعرض الآن

في السينما فلم الخيال العلمي الطويل «أمس بعد بكرة» بطولة إسماعيل الحسن وأحمد الصدام ولنا قمصاني. يكتشف أخوان بابًا قديمًا يسافر بهما إلى الماضي حين كان والدهما على قيد الحياة، ونعيش معهما محاولاتهما الحثيثة للعودة إلى زمنهما ووالدتهما.

VOX / IMDB

في السينما فلم الكوميديا والإثارة «التجربة المكسيكية» بطولة بيومي فؤاد ومحمود حافظ. تسافر مجموعة من الأصدقاء في بعثة إلى المكسيك، وتتوالى الأحداث في سياق مغامرة تمزج الإثارة بالضحك، حيث تقع المجموعة في مشاكل متلاحقة ومواقف مختلفة يحاولون التعامل معها أثناء رحلتهم.

VOX

في السينما فلم الرعب «?Mother, May I» بطولة هولاند رودين وكايلر جالنر. بعد وفاة والدة «إيميت» تبدأ خطيبته «أنيا» بالتصرف مثلها، فيدخل «إيميت» لعبة رعب يتعمق من خلالها بصدماته ليحل معضلة تلبُّس والدته لخطيبته.

VOX / IMDB

في نتفلكس مسلسل الدراما «Griselda» بطولة صوفيا فيرقارا. المسلسل مستلهم من قصة سيدة أعمال ارتقت سلم العصابات لتصبح عرّابة المخدرات في ميامي ورأس أشهر العصابات في عصرها.

Netflix / IMDB

النشرة السينمائيةالنشرة السينمائيةمقالات ومراجعات سينمائية أبسط من فلسفة النقّاد وأعمق من سوالف اليوتيوبرز. وتوصيات موزونة لا تخضع لتحيّز الخوارزميات، مع جديد المنصات والسينما، وأخبار الصناعة محلّيًا وعالميًا.. في نشرة تبدأ بها عطلتك كل خميس.