ماذا يقول عنك أنفك؟

أنفك الذي تراه تفصيلًا بسيطًا لا معنى له قد يصادف ما قد يغير تاريخه أو تاريخ من سيقابله.

نصب تذكاري لبينوكيو في الحدائق العامة في مدينة بونتريمولي الإيطالية / Getty Images
نصب تذكاري لبينوكيو في الحدائق العامة في مدينة بونتريمولي الإيطالية / Getty Images

ماذا لو تحدّث أنفك؟

إيمان العزوزي

توفي أبي مخلفًا أنفه ينمو على وجهي، يخفف هذا الميراث العجيب بعضًا من مرارة الفقد، ومتى اشتقت إليه أتأمل وجهي في المرآة لأجد أرنبة أنفه تلوح مبتسمة، وفي الحقيقة يكفي هذا الحضور الجلي لأحب أنفي وأمنع نفسي من التفكير في اقتراف ذنب عمليات التجميل والنحت والتصغير، وهذا ليس إنكارًا لحق الآخرين في اللجوء إلى ذلك متى لم يستطيعوا تحمل أنوفهم، بل يعني فقط أني أتعايش معه رغم بعده عن معايير الجمال الحالية. ولم تترك أمي أبي يستفرد بوجهي بل أورثتني عينيها وفمها، وهكذا يزداد هذا الحضور بهاء أو يغدو كما وصفته الشاعرة الصومالية ورسان شاير: «على وجهي ما زالا يعيشان معًا.»

الأنف الخائن

يبدو أن هذا النتوء الغضروفي الذي يسبق باقي الملامح في إثبات نفسه وتقديمها وجد ضالته في الأدب، حيث تلقفته أيادي الأدباء والشعراء مادحين إياه تارة وساخرين منه تارة أخرى، لكنه في جميع الحالات وجد طريقه إلى الخلود.

في صغري قرأت قصة كالرو كولودي «بينوكيو» الدمية التي أصبحت طفلًا بأنف يطول متى كذب، ولم أستسغ فكرة أن يخون الأنف صاحبه ويفضحه أمام الآخرين ويعاقبه، لهذا كنت أستفز أنفي وأتقن كذبات متتالية أقف بعدها أمام المرآة منتظرة ردة فعله، وأؤكد لكم أنني كنت ألمحه أحيانًا يطول ويقصر تبعًا لمدى قوة كذباتي، ولعل هذا الشد والجذب بين الكذبات ذات الحبل القصير والكذبات ذات الأنف الطويل هو ما ترك في مقدمة أنفي صدعًا بسيطًا يذكرني إذا مررتُ به سذاجة الطفولة. 

ويبدو أن إليسا أيضًا أحبت بينوكيو، في فلمها الوثائقي «It's Ok» الذي بثته مؤخرًا منصة نتفلكس. صورت أليسا أجمل لحظات هذا الفلم في مكتبتها الهادئة، وأول ما يلفت النظر حضور دمى بينوكيو الخشبية بين رفوفها. علّقت إليسا على هذا الحضور قائلة إنها أحبت بينوكيو للغاية وقد أثّر في شخصيتها وعلّمها أن تنبذ الكذب؛ فقد كانت تخشى، عكسي، أن يطول أنفها إذا كذبَت، لكن يبدو أن بعض الكذبات قد تسللت رغمًا عنها من لسانها وأحدثت أثرًا غير مرغوب في أنفها، إلا أن مشرط الجراح سرعان ما أعاد الأمور إلى نصابها، ويبقى أنف بينوكيو يذكرنا بأن هناك دائمًا شيئًا قد يخوننا رغم انتمائه اللامحدود إلينا.

الأنف الشاعر

في قراءة لاحقة صادفت أنفًا صادقًا وفيًا لصاحبه، يتوسط وجه الشاعر والفارس سيرانو دي برقراك كسيف بتار يواجه به أعداءه، لكنه كان أنفًا خجولًا منكفئًا على ذاته في مواجهة الحب، كان سيرانو يحب ابنة عمه روكسان المرأة الذكية المحبة للشعر والأدب، لكنه خشي أن ترفضه بسبب حجم أنفه، فأحجم عن الاعتراف وضحى بنفسه وساعد رجلًا آخر على كسب قلب حبيبته بكتابة رسائل تفيض عشقًا وشاعرية. في هذه المسرحية التي كتبها الفرنسي إدموند روستان وترجمها المنفلوطي بتصرف واضح أفسدها قليلًا نقف على ملمح لطيف في تعامل المرء مع جسده وعيوبه وكيف يعايش نظرة الآخر.

ففي الفصل الأول خلال المشهد الرابع يحاول أحد النبلاء التحرش بأنف سيرانو فيسخر منه قائلًا: «إن أنفك يا صاح مفرط في حجمه كثيرًا.» لم يغضب سيرانو من السخرية، بل قلب السحر على الساحر وسخر من ضعف أسلوب الرجل وفقر لغته وواجهه بخطبة مسهبة يعلمه فيها كيف يتقن بلاغة السخرية من أنفه، وقد قدم في هذا العرض عشرين تشبيهًا مضحكًا حول أنفه تنوعت بين التوكيد والتهويل والعطف والوقار، ومن أمثلتها قوله: «أكبر الظن أن الحيوان الذي أطلق عليه أرستوفانيس اسم هيبو كامبلفانتو كاميلوس كان دون شك يحمل تحت جبهته هذه الكتلة المجتمعة من اللحم فوق هذه الكتلة المجتمعة من العظم.» و«إنّ أنفك يا صاح هو أحد الابتكارات في صناعة المشاجب لتعليق القبعات.»

إن صنيع سيرانو يؤكد حساسيته المفرطة وحيويته وثقافته الواسعة وتمتعه بروح الدعابة، لكنه يؤكد تمكنه أيضًا من إحدى حيل المفارقة الذاتية، وأقصد بها القدرة الذكية على السخرية من عيوبنا قبل تصيدها من طرف الآخرين، وهكذا استطاع سيرانو التغلب على خصمه بتصغيره أمام الجميع وإبراز نقاط ضعفه في مقابل تعظيم عيب أنفه مستغلًا إياه لتأكيد تفوق لسانه البلاغي.

الأنف الثائر 

تنسب لدوستويفسكي خطأ عبارة «كلنا خرجنا من معطف قوقول»، ويُقصد بها مدى تأثر كل كتاب روسيا بقلم قوقول وأسلوبه، لكني أعتقد أن معطف قوقول لم يكن له هذا الفضل بل سبقه إلى ذلك أنفه، فقد كان أنفًا متمردًا مستقلًا حرًا، تحرر من التقاليد المتوارثة وفضّل التغريد خارج السرب، أنف قوقول كان أنفًا متنقلًا يخبرنا أن الأشياء قلما تكون حيث نعتقد أنها موجودة أو حيث نعتقد أنها باقية بحكم الضرورة ومنطق الأشياء.

هجر أنف قوقول صاحبه الموظف كوفاليوف واختفى بعد ليلة صاخبة تاركًا صاحبه تائهًا دون أنف أو هوية؛ فيفقد الرجل صوابه و مكانته، وبطريقة ذكية وكاريكاتورية ينتقد قوقول من خلال قصة فنتازية بيروقراطية الإدارة والفساد المستشري بين الموظفين، متحايلًا بذلك على الرقابة، كما ينتقد الهويات التي يمكن أن تتغير في لحظة في ظل مجتمع تراتبي طبقي.

يدفعنا هذا الأنف الثائر إلى التساؤل الكافكاوي: ماذا لو استيقظنا يومًا وقد هجرتنا أنوفنا؟ كيف سنواجه هذا العالم؟ وهل سيبدو هذا العالم دون معنى كما انتهى قوقول في قصته؟

الأنف المفكر 

منح نيتشه أنفه الذي يخفيه بمهارة خلف شاربه الكث جلالًا ووقارًا قلما نراه لدى فيلسوف آخر؛ فهو يربطه بالمعرفة والإدراك ويعلي من شأنه بين بقية الحواس، فهو حسب نيتشه الأداة الأكثر رهافة وإتقانًا لفن الملاحظة، وغالبًا ما نلجأ إليه لتأكيد أطروحة بصرية أو تفنيدها؛ فالأنف يعمل على إبراز ما لا يُرى للوهلة الأولى. وقد قال بصريح العبارة في عمله «هذا هو الإنسان» إن الأنف هو سر عبقريته وهو الأداة التي مكنته من رؤية ما هو غير مرئي وغير مسموع بل كل ما هو منبوذ؛ فأنفه كان المعول الذي هدم بواسطته كل الأوثان ناحتًا من جديد نماذجه التي لم يسبقه إليها غيره، مقتفيًا بذلك رائحة الحقيقة ونابذًا عفن الكذبات المسترسلة، وهو في هذا يبدو مثلي ومثل إليسا متأثرًا بأنف بينوكيو، لكنه يخجل من الاعتراف بذلك في العلن.

في حياتنا سيعبر أنفنا بمواقف عدة ويصادف غيره من الأنوف، لكن ما سيعلق في ذاكرتنا سيكون تلك الأنوف المميزة الواثقة من تفردها عن السائد والمبتذل؛ فأنفك الذي تراه تفصيلًا بسيطًا لا معنى له قد يصادف ما قد يغير تاريخه أو تاريخ من سيقابله. ثق في أنفك وامنحه الفرصة للتحدث؛ فلعله يكون مثل أنف كليوباترا الذي قال عنه بليز باسكال في تأملاته: «لو كان أنف كليوباترا أقصر قليلًا لتغير وجه التاريخ


  1. أعلنت جائزة الدوحة للكتاب العربي الفائزين بدورتها التأسيسية الأولى 2024، وهم نخبة من المتخصصين في العلوم الإنسانية والشرعية الذين أثروا المكتبة العربية. وضمت القائمة أيمن فؤاد سيد من مصر، وجيرار جهامي من لبنان، وسعد البازعي من السعودية، وطه عبدالرحمن من المغرب، وغانم قدوري الحمد من العراق، وفيحاء عبدالهادي من فلسطين، وقطب مصطفى سانو من غينيا، ومحمد محمد أبو موسى من مصر، ومصطفى عقيل الخطيب من قطر، وناصر الدين سعيدوني من الجزائر. 

  2. أعلن مجمع اللغة العربية بالشارقة فتح باب الترشح لجائزة الشارقة للدراسات اللغوية والمعجمية في دورتها السابعة 2024. واختارت الجائزة كتب «التراث اللغوية المحققة في جميع فروع علوم اللغة العربية» لمحور الدراسات اللغوية، و«المعاجم المختصة في العلوم الإنسانية والشرعية» لمحور الدراسات المعجمية. 

  3. منح اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا الكاتب والروائي المصري محمد المنسي قنديل «وسام الشرف» تقديرًا لدوره في الحياة الثقافية العربية. وكان وسام الشرف الأول في تاريخ الاتحاد قد مُنح الأسبوع الماضي للروائي السعودي عبده خال عن إجمالي مشروعه الثقافي. 

  4. يترقب قرّاء الكاتبة التركية إليف شافاق في أغسطس المقبل صدور روايتها الجديدة «هناك أنهار في السماء»، وهي الرواية الرابعة عشرة في مسيرتها الروائية.


من محمد الأحمدي:

  1. متاهة بان، قييرمو دِل تورو وكورنيليا فونكه

بخيال الطفلة أوفيليا الواسع تخلق عالمًا سفليًا تهرب إليه من زوج والدتها الضابط الشرس والحرب الأهلية التي اجتاحت إسبانيا، بل من عالم الكبار القاسي كله. عكسَ معظم الروايات التي جاءت كأفلام أولًا، تقدّم متاهة بان إضافة لم يقدمها الفلم الأيقوني؛ إذ ترسم لغة فونكه السحرية صورًا مدهشة وبُعدًا رابعًا لعالم المخرج قييرمو دِل تورو.

  1. قرية المائة، رحاب لؤي

على هامش الريف المصري قرية سكانها مئة نسمة بالضبط، لا يزيدون ولا ينقصون، وإن زادوا فردًا أُخِذ منهم بدلَه «مختار» يسميه عمدة القرية. وتلك فكرةٌ مشوقة وحكاية محبوكة تدخل فيها الخرافات والرمزيات. ورغم النهاية التي لا تعطي سر القرية حقه فإن قرية المئة تجربة حديثة مشوقة تستحق القراءة، ونتج عنها فوز الكاتبة بجائزة خيري شلبي للعمل الروائي الأول.

  1. الأعمال المختارة - القصص القصيرة، أنطون تشيخوف

    تجمع القصص في مجملها الحبكة البسيطة بالشخصيات العميقة والتعليقات الاجتماعية المضحكة واللاذعة أحيانًا. إتقان تشيخوف فن القصة القصيرة المراوغ وميله للإيجاز والتكثيف دون أن يضحي بتعقيدات شخصياته ومعنى قصصه، إضافة إلى خفة دمه التي لا يمكن تجاهلها، ذلك ما جعل هذه المجموعة القصصية أمتع من مسلسل أكشن على نتفلكس.

  1. البريق، ستيفن كينق

    يصل متعهد فندق الأوفرلوك جاك تورنس وعائلته إلى الفندق المبني فوق مقبرة للأمريكيين الأصليين. مهمة جاك بسيطة: اضبط السخانات اليدوية كي لا يتجمد الفندق المعزول فوق قمة جبلٍ ثلجي إلى حين عودة الطاقم بعد انتهاء موسم الشتاء. لكن بعد مرور فترةٍ قصيرة يكشف الفندق روحه الشريرة ويوسوس لجاك المقلع عن الشراب بإيذاء عائلته المحبوسة فوق الجبل المتجمد. هي قصة ظاهرها عن الأشباح والأرواح وجوهرها حول العائلة وتاريخ أمريكا الدموي ومواجهة الإدمان.

نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.