لماذا على القارئ اتخاذ دور الكاتب؟

المعنى حيز تفاعلي مشترك بين العمل (وكاتبه) والقارئ. 

الروائي الأمريكي كيرت ڤونيقت / Getty Images
الروائي الأمريكي كيرت ڤونيقت / Getty Images

لماذا على القارئ اتخاذ دور الكاتب؟

حسين إسماعيل

قبيل وفاة والدي بفترة وجيزة قال لي: «أتعلم، لم تكتب يومًا قصة بشخصية شريرة.» أخبرته بأن ذلك من الأشياء التي تعلّمتها في الجامعة بعد الحرب.

– كيرت ڤونيقت، المسلخ خمسة

في أثناء كتابة هذه التدوينة كان قد مر أقل من أسبوع على آخر مرة أشاد فيه أحد بتوصيتي المتكررة بقراءة الروائي الأمريكي كيرت ڤونيقت، مستشهدًا بالابتسامة العريضة التي ارتسمت محياه في أثناء قراءة مجموعة ڤونيقت القصصية «أهلًا بك في بيت القرود». هل يعني ذلك أن توصياتي رهيبة (مع أني ضد التوصيات العامة)؟ ربما، لكن «رهابتي» هذه موضوع تدوينة أخرى. ما تعنيه الإشادة بشكل أكثر أهمية هو نجاح ڤونيقت مرة جديدة في إضفاء بهجة من نوعٍ ما على يوم قارئ عابر، وهي البهجة التي غادر ڤونيقت الحياة عام 2007 آملًا بثّها.

سيجد من يطالع مؤلفات ڤونيقت ومحاضراته صعوبة في كبح ابتسامة بسيطة هنا وضحكة خفيفة هناك. بعض أسبابها كامن في حذاقة الكاتب الذي يمسك بظواهر حياتنا من أكثر زواياها عبثية، كمعنى حرية الاختيار وما إذا كانت دائمًا خيرًا ينبغي الاحتفاء به، وهو ما عرضه ڤونيقت للقارئ في رواية هزة زمنية التي وجد الناس أنفسهم فيها يعاودون عيش آخر عشر سنوات من حياتهم كما عاشوها للمرة الأولى، أي دون قدرتهم على تغيير شيء مما سبق أن حدث فيها. وقد حلت المفارقة حين انتهت «الإعادة» وعادت حرية الاختيار بأيديهم؛ فحلت الكوارث تباعًا.

وبعض الأسباب الأخرى كامن في جرأة ڤونيقت على وصف الأمور كما يراها دون مواربة أو تنقيح، مختارًا لها أقذع الألفاظ والصياغات أحيانًا. وليس من المستغرب أنْ أُقصي عدد من مؤلفاته على قوائم الكتب الممنوعة من مدارس الولايات المتحدة غير مرة. 

وسواء تعلق الأمر بجرأته أو حذاقته، فمن الضروري توكيد أن هذه الأمثلة لا توجد فرادى، بل ينبغي قراءتها بصفتها في المقام الأول مكوّنًا لفلسفة ڤونيقت الخاصة فيما يتعلق بالأدب والفن عمومًا. وهو نفسه يتناول بعض أبعاد فلسفته عبر نصوصه، فنجده مثلًا يصوغها بجملة عابرة في روايته الآنفة الذكر، قائلًا إن إحدى مهمات الفنان جعل الناس يقدّرون كونهم على قيد الحياة ولو بشكل بسيط. تتخذ هذه الفلسفة أكثر من شكل عند ڤونيقت. ولعل أشهرها تذكيره المستمر للجميع بألّا يسمحوا لمصائب الحياة بمنعهم من ملاحظة بهجات الحياة الصغيرة والاحتفاء بها في أثناء عيشها كما فعل في ختام محاضرته لخريجي جامعة رايس عام 1998.

ولكن تلك الفلسفة أيضًا تتخذ أشكالًا أكثر ارتباطًا بممارسة الكتابة بحد ذاتها، ولا سيما كما يقولبها ڤونيقت في مؤلفاته الروائية،كما يمكن مثلًا قراءة افتتاحية روايته «مهد القطة»، التي نال على إثرها شهادة الماجستير في الأنثروبولوجيا من جامعة شيكاقو، وهي الافتتاحية القائلة: «عش بالفوما التي تجعلك شجاعًا ولطيفًا ومعافى وسعيدًا.» وتعني مفردة «الفوما» في قاموس ڤونيقت «اللاحقائق غير المؤذية». يتوجه الخطاب هنا إلى قارئ متخيَّل مطالب بأن يُسبغ على حياته المعاني التي من شأنها تهوين الأمور وجعلها أفضل مما تبدو عليه فعلًا.

لا شك في انطواء المعاني المتأتية من القراءة ضمن هذه الفكرة ويذكّر ڤونيقت القارئ أن عملية تشكيل المعنى في أثناء القراءة ليست أحادية الاتجاه إطلاقًا. بعبارة أخرى: ليس المعنى رسالة تنطلق من العمل الروائي تجاه قارئه وحسب، بل هو حيز تفاعلي مشترك بين العمل (وكاتبه) والقارئ. 

ثمة جزئية مثيرة للاهتمام في روايته «المسلخ خمسة» على لسان أحد سكان كوكب «ترالفامادور» (واحد من كواكب ڤونيقت الخيالية)، يقول هذا «الترالفامادوري» إنهم ليسوا كالأرضيين يقرؤون الحروف الواحد تلو الآخر في سبيل تكوين معنى المقروء، بل هم ينظرون إليها إجمالًا ويرسمون بواسطتها معانيهم الخاصة. ينبني ذلك جزئيًا على فلسفة الزمن لدى «الترالفامادوريين»، حيث يمتلكون قدرة رؤية الماضي والحاضر والمستقبل، ويمكنهم اختيار اللحظة التي يودّون عيشها. يشبه الزمن لديهم لوحة فنية تزخر بالتفاصيل يمكن لمن يتذوقها اختيار رؤية التفاصيل في غناها أو وضعها إلى جوار لحظات أخرى لتشكيل معنى آخر.

وتبعًا لفلسفة الزمن هذه ستختلف القراءة أيضًا؛ فلا يعود «النص» محض تتابع لرموز باتجاه وحيد وقراءة واحدة، بل يتحول إلى مقتطع من الحياة بكل تعقيداتها، وهنا يصبح لزامًا على القارئ أخذ دور الكاتب في الحُسبان؛ إذ هو من يؤدي عملية الاقتطاع هذه. ومِن ثَم «ليست هنالك أي علاقة محددة بين الرسائل سوى أن الكاتب اختارها بعناية، بحيث إنه حينما يُنظر إليها ككل تُستخرج منها صورة حياتية جميلة ومفاجئة وعميقة. ليست هنالك بداية ولا منتصف ولا نهاية ولا تشويق ولا رسالة ولا علل ولا آثار». وإذا أعدنا صياغة أحد إلزامات هذه الفكرة يمكن القول إن قراءة العمل الروائي بصفته امتدادًا لكاتبه تعني القدرة على إدراك معان حياتية متولدة من رؤاه.

في رسالة كتبها ڤونيقت قبيل وفاته ببضعة أشهر، يدعو طلاب مدرسة «زاڤيير» الثانوية إلى ممارسة الفن،أي فن، خارج أهداف الربح والانتفاع، مشيرًا إلى أن الممارسة بحد ذاتها ستجعلهم يمرون بما سمّاه «تجربة الغُدُوّ» (becoming)، مؤكدًا أن هذا «الغدو» هو ما يجعل أرواحنا تنمو. وفي حين تركز الرسالة ظاهرًا في ممارسة الفن فإن استهلاك فلسفة ڤونيقت الكتابية بوعي من شأنه تنمية أرواحنا وجعلنا نمر إلى حد ما بـ«تجربة غدو»، أي أن نوسع مداركنا باستملاك ما يزحزح تحجّر قناعاتنا الخاصة.


  1. صدرت حديثًا عن المركز الثقافي العربي الترجمة العربية للمسرحية الوحيدة للروائي التشيكي الراحل ميلان كونديرا «جاك وسيّده»، وكتاب «الغرب المختطف» بترجمة عبدالمجيد سباطة. 

  2. صدرت طبعة المسوّدة الأولى للرواية غير المنتهية «سنلتقي في أغسطس» (En Agosto nos vemos) للروائي الكولومبي قابرييل قارسيا ماركيز التي وصى بحرقها وعدم نشرها. يُذكر أن دار «التنوير» ستترجم العمل إلى العربية. 

  3. أعلنت جائزة البوكر الدولية قائمتها الطويلة لعام 2024. وضمت 13 عمل روائي تُرجم للإنقليزية. وتعد الجائزة التي تمولها مؤسسة البوكر من أعرق الجوائز البريطانية في مجال الترجمة، وتمنح سنويًا منذ 2016 لرواية أو مجموعة قصصية تُرجمت إلى الإنقليزية ونُشرت في بريطانيا وإيرلندا. تبلغ قيمة الجائزة 50 ألف جنيه إسترليني وتُقسّم بين المؤلف والمترجم. 

  4. أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب عن القوائم القصيرة المرشحة للجائزة في دورتها الثامنة عشرة لفروع «الآداب»، «المؤلف الشاب»، «الترجمة»، «التنمية وبناء الدولة»، و «الثقافة العربية في اللغات الأخرى»، و «تحقيق المخطوطات» و«النشر والتقنيات الثقافية».


من ليلى العمودي:

  1. معذبو الأرض، فرانز فانون

تميل الكتابات الموضوعية والأكاديمية التي تطرح قضية الاستعمار أو الاحتلال إلى تناول هذا الباب بواسطة أسلوب ليّن ومُهادن، لكن في «معذبو الأرض» يطرح فرانز فانون، كعادتهِ، قضايا الاستعمار من منظورٍ أوسع وأشمل، منظور صادق وواقعيّ، كما أنه يناقش مفهوم «العفوية» ضمن الإطار التحريري بكل ما فيهِ من محاسن ومآخذ، ويضع النقاط على الحروف في العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر والنتائج الحتمية لهذه العلاقة، مستمدًا ذلك من تجربتهِ الثرية والإنسانية في الشأن الأفريقي. ويُقدم جان بول سارتر للكتاب فتحصل بذلك المعادلة السوية: قولُ الحقِّ والإقرار به في كتابٍ واحد!

  1. امرأة في برلين: ثمانية أسابيع في مدينة محتلة، مارتا هيلرس

    يضم الكتاب تجربة الإنسان بوصفهِ كتلة كاملة من المشاعر في الحرب تخوضُ في تفاصيل التفاصيل. وترجع أهمية الكتاب إلى كونهِ كُتب بواسطة اِمرأة، وهذا يعني وجود نظرة مغايرة لكل مآسي الحروب المعروفة، بل ربما نظرة جديدة؛ لأن هذه اليوميات أشبه بإعلان شيء علني لكنهُ لا يُرى، أي لا رغبة في رؤيتهِ. تدور أحداث اليوميات في برلين خلال الأيام الأخيرة من انهزام النازية وما أعقب ذلك من احتلالٍ روسيٍّ للمدينة، ولا تخفى في سطورِ الكتاب الأبعاد السياسية الممزوجة بمعاناة الحرب.

    وعلى هامشِ الجبهات التي تخوضها أطراف الحرب تحت ذرائع لا تنتمي للواقع تقول مارتا هيلرس من عُمقِ هذا الواقع: «انحدرتُ إلى مجرد غرضٍ جنسيّ»!

  1. حلم السلتي ماريو، ماريو بارقاس يوسا

    في حلم السلتي يتأرجح ماريو بارقاس يوسا بين الروايةِ والسيرةِ الذاتية، وربما كان ذلك هو المزيج «الأنسب» لوصف بطل هذا العمل روجر كيسمنت، المحتلّ البريطاني الذي تحوّل إلى مناضلٍ أيرلندي! كيسمنت، الذي عرف معنى آخر للوطنِ وطريقة أخرى لحبه، أحبّ أيرلندا عبرَ الكونقو والأمازون، وجمَع في ذلك بين العفوية والتنظيم والعنفوانِ والهدوء، وهذّب في سبيل هذا الحب كل التناقاضات واحتواها. ربما سيتمنى كل إنسانٍ أن توثَّق سيرة حياته بواسطة قلم يرصد ويلحظ كل أبعاد الشخصية، أجاد ماريو يوسا سرد العمل إلى درجةِ الكمال.

  2. مباهج الكتابة وأوجاعها، إرنست همنقواي

    في حضرة إرنست همنقواي تتضاءلُ كل الشكليات، فهو يجيدُ وصفها ضمن حدودها، ولا يخجل لا من القُرّاء ولا من أصدقائه الكتّاب ولا دور النشر. يحتوي الكتاب مجموعة من المراسلات الثمينة حول الكتابة ومجتمع الكتابة، جمَعَهاتشارلز سكربنر جونيور. الكتاب ملائم لدور النشر حتى تعرف مدى «العرقلات» التي تصنعها وتضعها أمام الكاتب، ومُهِم بدرجة أكبر للكُتّاب لتذكيرهم بالشروط اللازمة والدائمة لممارسة هذا العمل القيّم. كما أنّ قلم همنقواي الساخر واللاذع لم يتجاوز مجتمع النقاد، فقد تطرق إليهم في أسطر قليلة عابرة لكنها كافية جدًّا.

نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.